الكتابة.. أن تقتلع صوتًا من الصمت
الكاتبة|أية محمد محسنالمدققة|أسماء الشافعي تصميم الغلاف|حنين هاني
الكتابة هي الفعل الأكثر سحرًا وثباتًا في عالم يموج بالضجيج والصور العابرة، إنها ليست مجرد صفٍ للكلمات على الورق أو الشاشة، بل هي عملية أشبه بالخنق، عملية استخراج دقيقة لصوت كان حبيس الصمت، وإعطائه شكلًا وروحًا.
الكتابة هي محاولتنا اليائسة والنبيلة في آن واحد لترتيب فوضى أفكارنا، وتخليد لحظة عابرة، وبناء جسر من العقل إلى العقل، ومن القلب إلى القلب، إنها الحرفة التي تحول الهواء غير المرئي للمشاعر والأفكار إلى حبر مرئي وملموس، قادر على عبور الزمن والجغرافيا.
لماذا نكتب؟ قد تبدو الإجابة بسيطة، لكنها في الحقيقة مركبة كالحياة نفسها، نحن نكتب لأسباب مختلفة تتشابك وتتداخل، وكل منها يمثل وجهًا من وجوه هذه الحرفة العظيمة.
أولاً: الكتابة فعل اكتشاف
نحن لا نكتب دائماً لأننا نعرف، بل نكتب أحيانًا لكي نعرف.
الورقة البيضاء ليست مجرد مساحة فارغة، بل هي مرآة تعكس لنا أفكارنا التي لم تكن واضحة حتى لنا.
أثناء عملية الكتابة، تتشكل الحجج، وتتكشف الروابط، وتولد الاستعارات.
الكاتب يبدأ رحلته وفي جعبته سؤال، ومع نهاية النص، قد لا يجد الجواب الكامل، لكنه بالتأكيد يكون قد اكتشف أبعادًا جديدة للسؤال نفسه، واكتشف شيئًا جديدًا عن نفسه وعن رؤيته للعالم.
إنها حوار مع الذات قبل أن تكون حوارًا مع القارئ.
ثانيًا: الكتابة سلاح ضد الفناء
كل شيء في حياتنا يتجه نحو النسيان، الذكريات تبهت، والقصص تُنسى، والمشاعر تتغير، الكتابة هي سلاحنا الوحيد ضد هذا الفناء المحتوم.
عندما نوثق قصة، أو نسجل شعورًا أو نصف مشهدًا، فإننا نقتنصه من تيار الزمن المتدفق ونمنحه خلودًا نسبيًا. النص المكتوب هو أثر يبقى بعد رحيلنا، شهادة على أننا كنا هنا، شعرنا، وفكرنا، وأحببنا.
من يقرأ رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان اليوم، يشعر بوهج حب لم يمت رغم رحيل صاحبه، وهذا هو انتصار الكتابة الأبدي.
ثالثًا: الكتابة فعل تعاطف
أعظم ما في الكتابة هو قدرتها على جعلنا نعيش حيوات أخرى، من خلال الكلمات، يمكننا أن نشعر ببرد سجين في زنزانته، أو فرحة طفل بهديته، أو حزن أم على فقدان ابنها. الكاتب الجيد لا يخبرك فقط بما حدث، بل يجعلك "هناك"، هو يأخذك من يدك و يضعك في قلب التجربة.
هذه القدرة على خلق التعاطف هي ما يجعل الأدب قوة تغيير اجتماعية هائلة، إنها تجعلنا أكثر إنسانية، لأنها تكسر جدران الأنانية وتجبرنا على رؤية العالم من عيون الآخرين.
في النهاية، الكتابة ليست مجرد مهارة تُكتسب، بل هي حالة من الوجود.
هي أن تكون حساسا بما يكفي لتلتقط ما لا يراه الآخرون، و شجاعًا بما يكفي لتقول ما يخشى الآخرون قوله، وصبورًا بما يكفي لتجد الكلمات المناسبة التي تليق بصدق الفكرة أو الشعور.
قد تكون الكتابة رحلة شاقة وموحشة أحيانًا، مليئة بالشكوك ومواجهة الورقة البيضاء، لكنها تظل المغامرة الأكثر إثارة، لأنك في كل مرة تكتب فيها، فأنت لا تملأ فراغًا على الورق فقط، بل تملأ فراغًا في الروح، وتقتلع صوتًا جديدًا من صمت هذا العالم الواسع.
تعليقات
إرسال تعليق