خارطة وطن مزقه النسيان

القائمة الرئيسية

الصفحات

 خارطة وطن مزقه النسيان

صورة غلاف للنص بها سماء وورود وفتاة تجلس تنظر إلى السماء والبحر أمامها

الكاتبة|ناهد عبدالله القدسي
المدققة|شمم غسان المحمد
تصميم الغلاف|مروة صلاح


إلى السفر البعيد، إلى السلالم المتجهة نحو القمر، أو ربما بين النجوم، إلى أعلى الغيوم رفرفت بأجنحتها إذ منحها الحب جناحين جديدين بعد أن بترت الحياة أجنحتها، إلى أعلى الغيوم ستسافر برفقة الحب وقلبها المحلّق بعيداً.


كنتُ آمل أن ألقاك قبل أن آتي إلى الوجود، وأن أُمسك بيديك رافضةً النظر إلى كل الوجوه، أن أُمسك يديك بشوق، فتكون أنت أول وجهٍ واتجاه، وتكون أول أبجديةٍ تفتّق بها لساني، فتصبح قوميتي وهويتي وأوطاني، لكن قدّر الله وما شاء فعل، وليس فوق قدرة الله مقتدر، جئتَ في الوقت المناسب لتجعل مني أنثى بأجنحةٍ تحلّق بعيداً إلى أعلى الغيوم، حيثُ تصطفُّ في السماء بين حبات النجوم.


إنّه مساء الليلة الأخيرة التي تسبق يومَ الثلاثين من ديسمبر. نعم، ديسمبر الشهر الذي ما إن يأتي حتى تصبح لياليه باردة، وباردة أكثر على أولئك الذين لا يستطيعون أن يواسوا هذا الليل بعبقٍ من الذكريات الجميلة التي حملتها لهم الثلاثمائة وأربعة وستون يوماً الماضية. 


أما أنا، فتلوح لي فكرة في الآفاق البعيدة، تُغازل عينيَّ بأجمل عبارات الغزل، تناديني بكل مفردات الإغراء: «تعالي نقضي الليل معاً»

إنها الأفكار ذاتها التي لا تأتي إلا في ديسمبر، أمسكي قلمك واكتبي، ففي ذمتك نصٌّ عالق، وألف قصيدة وخاطرة، قصةٌ لم تنتهِ، وروايةٌ في المنتصف، وفكرةٌ تلوح في الأفق.

 هل تريدين أن يفنى العمر وأنتِ تحملين في ذمتك كل هذه الأكوام من الكلمات؟ 


رحتُ أبحث عن قلمي الذي أحبّ، أبحث عن ورقةٍ أكتب عليها كل ما جادت به طبيعة عقلي، وإنها لأرضٌ خصبة لا تجود إلا بكل جود، وبدأت: بسم الله رب الوجود، بسم الله منذ أن بدأت أول حرف حتى يبلغ الكلام منتهاه، بسم الله الذي فتق لساني بالعربية لأتذوّق من أشعار من أفصحوا وكتبوا، فكانوا خير من سطّر الأدب، وخير من أخذ القلم وكتب.

وما من شيءٍ ذُكر في مبتدأه اسم الله إلا أنعم الله عليه بتمام النهايات، فبسم الله نبدأ... إلى أعلى الغيوم. 


بدأت الكتابة: 

على قارعة الطريق ينام ضحايا الحب والحرب لم أعد أعلم أيّهم أكثر تضرراً، غير أنّي أصبحت أكثر يقيناً بأن هناك رباً يسمع أنين الأرواح المتعبة، أياً كان تعبها، لها ربٌّ يسمع ويرى، ومنتهى الحب أن يراك ترضى، فيرضى عنك فيُرضيك أضعاف ما كنت تشاء. 


وضعت يدي في معطف عباءتي السوداء أبحث عن قطعة نقود أُدسّها في يد ذلك الشخص الذي بدت عليه ويلات الحرب التي لم تُبقِ ولم تذر، كان رجلاً طاعناً في السن، وبعد أن اقتربتُ منه وهممتُ بوضعها في يده، لم يمدّ أيّاً من يديه، نظرتُ أولاً إلى اليمنى، ثم إلى اليسرى، فوجدتُه يضعهما في جيب معطفه الذي يشبه خارطة الوطن الممزقة التي ظهرت عليها ويلات الحرب هي الأخرى. 


وعندما اقترب مني، شعرتُ بالخجل، تساءلت: «من أين يشتري هؤلاء عزّة النفس والكبرياء؟» راودني شيءٌ من الشك بأنّ يديه مبتورتان، وأنّ الظلام حال بيني وبين أن أرى ذلك، وعندما اقترب أكثر، قال لي جملةً ما زلت أذكرها حتى يومنا هذا:

«لا أريد نقوداً أشتري بها خبزاً، أريد نقوداً أشتري بها وطناً وأوزعه على المشردين والمهجّرين والأشقياء».


ابتسمت له وخاطبته ضاحكة: «أليس هذا وطننا؟ إنّه يتسع للجميع!».

نظر إلى السماء بِضع ثوانٍ، ثم ضحك بصوتٍ عالٍ وقال في خطابٍ راق لي وقتها:

«الوطن للمسؤولين والأغنياء، أنا وأنتِ وهم، وكل من هُم دون ذلك بؤساء وأشقياء، نحن لا نملك شيئاً، ولكنّ الله يُنزّل البرد على قدر الغطاء».


ومضى بعيداً يسير حتى تلاشى طيفه في الآفاق البعيدة، وأنا ما زلت أتعجب من كلماته! وبعد مضيّ دقائق، غادرت المكانَ أقلّب كلامه في رأسي، لكنّ الجملة الأكثر ثباتاً واستقراراً كانت:

«الله يُنزّل البرد على قدر الغطاء».


ناهد عبدالله القدسي.
تم النشر بإذن الكاتبة_جميع الحقوق محفوظة لجريدة غاسق الأدبية

تعليقات

التنقل السريع