نص عقل حائر
أسماء علي
عقل حائر إن هذ المزاج السوداوي قائم في داخلي حتى قبل أن أجد له سببا أو على الأقل قبل أن أعرف كيف أعبر عنه فمنذ طفولتي و على امتداد سنين الدراسة كنت في بداية كل عام دراسي أنحي جميع الكتب جانبا لدى استلامها من إدارة المدرسة و ذلك بعد سحب كتاب القراءة من بينها. أفتح الكتاب و أتصفّحه على نحوٍ سريع ثم أبحث في داخله عن أشد القصائد تعاسةً وخاصةً تلك التي يطغى عليها الطابع الوجداني بشكله الأليم.
النصوص التي كانت تقوم على تفاهات حبّ الوطن، أهميّة العائلة، التغنّي بالريف و جماله، الفلاح و نشاطه، الإنتصارات الوطنية و شعاراتها الفضفاضة و أحداثها المزيّفة لم تكن تستهويني أبدًا، و إن مثل هذه النصوص يظهر محتواها من عناوينها، و لذلك فقد كانت تمرّ من تحت أنفي دون أن أتوقّف عندها، إذ كيف يُمكن لمثل هذه الأشياء الهائلة بالنسبة لي كطفل أن تترك أثرًا في نفسي و أنا كنت عاجزًا أصلًا عن الشعور بالإنتماء و إلى يومي هذا حتى لمحيطي الصغير من زملاء و مدرّسين، و بالطبع لم أكن في ذلك الوقت قادرًا على وصف هذا الشعور كما أصفه الآن، إلا أنني كنت أشعر به بقوة تكفيني لتصديقه و الجزم بحقيقته، غير أنني و بسبب طباعي و انطوائيتي وعنادي و مطالبتي بشرحٍ مفصّل قبل قبول أية فكرة تصدر عن المعلمين كالأمر العسكري و إضافةً إلى عدم مرونتي و غياب مشاركتي للعمل الجماعي لم أكن مرغوبًا بين كثير من المُعلّمين، فقد قال لي إحداهم ذات مرة: بصراحة أسئلتك الكثيرة لا تعجبني كما أن سلوكك غير مناسبٍ لطفل في سنّك و أنا لا أريدك في صفّي، ولكن الشيء الوحيد الذي يغفر لك هو ذكاؤك وقدرتك أن تُنجز بشكل دقيق كل ما يتم طلبه منك على أكمل وجه.
إن كلامه هذا الذي جاء مع انتباه جميع الطلاب ونظراتهم نحوي بعد صمتٍ مُطبقٍ ساعده على نشره لضرباته المتوالية بالعصا على الطاولة قبل إعلانه، قد وقع ثقيلًا على نفسي كقبضةِ مُلاكم على وجهي. كنتُ في العاشرة من عمري حينها و منذ ذلك الوقت أشعر بأن العالم كلّه يعاملني على هذا الأساس.
و علاوةً على كل هذا كنت ميالًا و شديد التأثّر بشكل لا يصدّق بما هو صادق بالنسبة لي، فقد انجذبتُ بدون أي تردّد أو مقاومة للعديد من النصوص؛ الغريب الذي رمى دهره بقلبه سهم النوى فرجى ربّه أن يكوي السهم كما كوى قلبه، المريض الذي شبّه حُمّاه بضيفةٍ بذل لها المطارف و الحشايا فعافتها و باتت في عظامه و استغرب وصولها إليه من بين زحام أهوال دهره و مصائبه، الرجل الذي رفض استبدال داره و جيرانه بدار و جيران آخرين بعد عجزه عن أن يجد بينهم امرأة من أضعف خلق الله أركانا في طرفها حور يصرعُ ذا اللبّ حتى يرديه بلا حراك، و آخر ألمّ به داءٌ كان يخال فيه شفائه، و تعيس لم يستطع أن يحيا طوال عمره إلا لحظات قليلة من الجمال سرقها من دهره السّقيم حين نام، و يتيم يرثي أمّه باكيًا تكاثره دموعه بعد أن فارق في فراقها تماسكه و تجمّله حتى نسي تعزّزه و إبائه حين استعان بصبره فخذله.....
المهم أنني كنت أقرأ هذا النوع من الأدب في اليوم الأول لكل عام دراسي بعد حصولي على الكتاب ثم أحفظه عن ظهر قلب حتى أجني منه كآبة أوزّعها على باقي أيام العام.
أما اليوم و بعد أن اختبرت الحياة بنفسي خارج ذلك المربّع الصغير في المدرسة و الذي كنت أعتقده جحيمًا، و بعد أن استهلكتُ عمري و تجرّعتُ من أهواله و خيباته وخذلان الآخرين ما أعماني، فقد جنيت من الكآبة ما يكفيني لتوزيعه على كامل أيام حياتي.
و بعد كل ذلك الذي كأنه لم يكن كافيًا، كبرتُ ولا أعرف كيف لازمتني تلك العادة السيئة بسحب كتب القراءة على مدار كل هذه السنين، ففي السابق كنت أسحب كتب القراءة من بين كتب العلوم و الرياضيات و التاريخ و الجغرافيا، أما اليوم فصرت أسحبها من بين كتب التنمية البشرية التافهة و الأتكيت المقيت و تعلّم اللغات و كيف تصبح اجتماعيًا غبيًا في خمسة أيام، كما صرت أركزّ و على نحو خاص على تلك الكتب التي انتحر كتّابها و بعض من قرأوها و استمريتُ في تصفّحها بلا انقطاع حتى فصلتني عن الواقع تمامًا و جعلته غير محتمل بأي شكل من أشكاله حتى أورثتني من الكآبة و السواد ما أستطيع اليوم توزيعه على حياتكم جميعًا •
تعليقات
إرسال تعليق