جزيرة الأبواب الخمسة
الكاتبة| عائشة قلمي محمد
المدققة| زينب علي سنوسي
تصميم الغلاف|إسراء الزهدي
ذهبتُ في مغامرة مثيرة مع صديقتي، وكانت الرحلة حول جزيرة معزولة لم تطأها أقدام كثيرين، ركبنا السفينة وانطلقت بنا عبر أمواج البحر اللامتناهية، كنّا نضحك ونتبادل القصص والهواجس الصغيرة كما نفعل دائمًا قبل كل رحلة، قلتُ لها بمرح: "تخيّلي لو وجدنا شيئًا لم يره أحد من قبل!"، فأجابت ضاحكة: "المهم نرجع سالمين، والباقي خير كبير!".
بعد قليل؛ بينما كانت الشمس تصب على المياه بلهيب ذهبي، سمعنا طرقًا غريبًا من أسفل السفينة، توقفنا عن الضحك ونحن نُصغي، ثم ارتفعت أصواتٌ كأن شيئًا ضخمًا يضرب الخشب من تحت، خفتُ، وما إن اقتربتُ من حافة السفينة حتى رأيت ظلًا كبيرًا يتحرك تحت الماء، ارتفعت أصوات الصراخ والهلع، وظهر قرش ضخم يضرب السفينة بمخالبه، فتمايلت السفينة قليلًا.
"سنغرق!" صاح أحد الركاب.
تمسّكتُ بحافة السفينة وقلت: "لا تتركي يدي!"
الغريب أن القرش ابتعد فجأة، فتنفّسنا الصعداء ونظرتُ إلى صديقتي متسائلةً ماذا كان الأمر؟ لكن قبل أن نستوعب حدث غريب آخر: عاد القرش بقوة أكبر وطرق السفينة حتى سقطنا جميعًا في البحر، لكن العجيب أنه لم نغرق! لم نشعر بالبلل كما نتوقع، لقد استطعنا التنفّس تحت الماء وكأن شيئًا ما حولنا يحفظ أنفاسنا.
همستُ بصوتٍ منخفض: "نحن نتنفس تحت البحر!"
ردّت صديقتي بدهشة: "هذا مستحيل... ما الذي يحدث لنا؟"
ثم سمعنا صوتًا عميقًا: "هل أتيتما إلى جزيرة الاكتشاف؟" كان الصوت آتٍ من القرش نفسه! تأملناه بدهشة، فلاحظنا أن عيناه تتوهّجان كأنما يحويان سرًّا قديمًا، قال القرش بصوت هادئ: "اطمئنا، لن أؤذيكنّ إن كان مقصدكنّ الخير."
لم نتمكّن من الإجابة فقد غشى علينا شيءٌ شديد، وعندما استعدنا وعيّنا وجدنا أنفسنا على شاطئ الجزيرة، تكسوه رمال ناعمة ونخيل تمتدّ كأنها تحرس المكان منذ زمن بعيد. نظرتُ لصديقتي وسألتها: "هل حلمنا أم أن هذا واقع؟" فأجابت: "لا، إن رائحة البحر والنسيم دليل أن الحقيقة أمامنا." وقفنا لحظات نصغي لصوت الأمواج، ثم قررنا أن نبدأ الاستكشاف.
كانت الجزيرة مليئةً بالمفاجآت: أزهار بألوان غير مألوفة، طيورٌ تغنّي ألحانًا لم أسمعها من قبل، وفسحاتٍ من الأعشاب التي تعكس ضوء الشمس كأنّها مرايا صغيرة. تقدّمنا بين الأشجار حتى وصلنا إلى مكان غريب يحوي خمسة أبواب مصطفة على جدار حجري قديم، كل باب كان له ثقب صغير لننظر من خلاله، اقتربنا بحذر ونظرنا إلى ما وراء الأبواب -فوجئنا!- خلف كل باب عالمٌ مختلف: نهرٌ رقراق، حديقةٌ مثمرة، مروجٌ خضراء، وكهوف لؤلؤية، وكلها تبدو وكأنها تنتظر من يفتحها.
حاولنا فتح أحد الأبواب لكنه لم يفتح، وكأن كلمةً سحرية مطلوبة، فصرخت صديقتي مستعجلة: "لابد أن هناك سرًا أو مفتاحًا!"، بحثنا حولنا فترة طويلة حتى وصلنا إلى كوخ صغير متداع. دخلناه بحثًا عن راحة وقيلولة ليلًا، وفي الصباح وجدنا خريطة قديمة مرسومة عليها نفس الأبواب الخمسة وملاحظات غير واضحة، أخذنا الخريطة معنا وعدنا إلى ديارنا محملتين بالأسئلة.
عرضنا الخريطة على خبير خرائط، فأجابنا متحيرًا: "لا أفهم هذه الرموز". وأوصانا بالذهاب إلى شيخ حكيم في بلدة بعيدة، فذهبنا إليه وقد دبّ فينا الأمل، جلس الشيخ وقرأ الخريطة ببطءٍ، ثم رفع رأسه وقال: "إنها خريطة كنز محفوظ، وأبوابه لا تُفتح إلا بخمسة مفاتيح روحية".
تبادلتُ النظرات مع صديقتي، وقلنا بلهفةٍ: "وما هذه المفاتيح؟" أجاب الشيخ بهدوء: "المفتاح الأول هو التشهد، ثم الصلاة في وقتها، ثم الزكاة، ثم الصوم، وأخيرًا الحج." ثم أضاف: "ليست مجرد رموز، بل أعمالٌ تجعل القلب نقيًا والنية صافية، من يجتهد فيها بقلبٍ خالصٍ ستنفتح الأبواب أمامه".
تأثّرنا بكلام الشيخ، وقرّرنا أن نجرب بصدق هذا الطريق، وصية الشيخ كانت كمنارة في طريقنا؛ بدأنا نعيد ترتيب حياتنا: المحافظة على الصلاة في وقتها، والإخلاص في التشهد، والتصدق من مال نجمعه للعمل الخيري، والصوم بقلب طاهر، والسعي لتوفير مال للحج. لم تكن رحلةً سهلة؛ لكننا تعاهدنا أن نكون صادقين في النيّة والعمل.
مرت السنوات وكبرت عزيمتنا، كنّا نصلي في وقتها حتى في أصعب الأيام، نصوم ونتصدق بدموع أحيانًا من خشية الله، نعمل ونكسب المال شريفًا لنساعد به والدينا ونوفر مبلغ الحج، كان كل يوم يمرّ يقوّي إرادتنا ويزيد إيماننا. كانت لصديقتي عاداتٌ صغيرة تجعلني أضحك: تذكرني دائمًا بأوقات الصلاة وكأنّها ساعةٌ مقدّسة لا يجب المماطلة عنها.
ذات ليلة، مرضت صديقتي مرضًا مفاجئًا، فاضطررنا لبيع بعض ما جمعنا من أجل علاجها، كانت لحظةٌ صعبةٌ أظهرت لنا معدننا الحقيقي؛ فرغم أن الفقد كان مؤلمًا، فإنّ العطاء والتضحية أعمقا صداقتنا وجعلانا أقرب إلى الله، تذكّرت حينها قول الشيخ: "المفتاح ليس فقط في العمل الخارجي، بل في نقاء القلب عند الابتلاء."
كما قابلنا رجلًا مسنًا وحيدًا يعيش على هامش البلدة، فأعطيناه من مالنا ووقتنا، فسُرّ وأخبرنا بقصص عن الجزيرة القديمة وحكاياتِ أجداده، ومع كل قصة كان يُحدثنا إيمانًا متجذرًا بأن الدنيا زائلة وأن ما يبقى هو أثر الطيبة في القلوب، علمتنا القصص أن الطريق للكنز ليس سهلًا ولا قصيرًا، وأنّ النجاح الحقيقي أن يثبت الإنسان على طاعته مهما بلغت الصعاب.
وأخيرًا جاء اليوم الذي عُدنا فيه إلى الجزيرة، وكانت قلوبنا ترتجف فرحًا وخشية، وقفنا أمام الباب الأول، تذكّرت كلمات الشيخ ونطقتُ بالتشهد بقلوبٍ خاشعة: "أشهد أن لا إله إلا الله..." لدهشتنا انفتح الباب بهدوء كأنه يبارك إيماننا. دخلنا ولم نصدّق ما رأيناه: حديقةٌ من نور وأنهارٌ من ماء رقراق يلمع كالكرستال، أخذنا نفسًا عميقًا وشكرنا الله.
فتحنا الباب الثاني بصلاتنا بخشوع، ثم الثالث برحمتنا ومعروفنا للفقراء، والرابع بصومنا القلبي، وختمنا الخامس بالحج الذي فعلناه بصدق واحتساب. بدا الداخل وكأنه عالمٌ آخر؛ لم نأخذ إلا القليل مما نحتاجه من مجوهرات ومقتنيات زمنية، لأننا أدركنا أن الأهم ما تغيّر في قلوبنا.
عدنا إلى المدينة وأهلها يندهشون من تغيرنا، أصبحت لنا مالٌ ورزقٌ حلال، لكنّنا لم نَبْخل بالعطاء، اجتمع الناس يومًا أمام قصرنا متسائلين: "من أين لكم هذا؟" فابتسمت وقلت: "بخمس مفاتيح: التشهد، والصلاة في وقتها، والزكاة، والصوم، والحج". تأثر الناس وساد الحماس بين أهل البلدة؛ المساجد امتلأت بالمصلين، والصدقات ازدادت، وصار الناس يتعاونون ويخففون عن بعضهم البعض.
وبعد أيام هطلت أمطار غزيرة ثلاثة أيام متواصلة، ولم يستطع أحد الخروج من بيته، عندما هدأت السماء وخرج الجميع، اندهشوا: الجبال من حول المدينة قد تحوّلت لمعادن لامعة تشبه الذهب، كانت نعمةً عظيمةً، ولكن الأهم أنها كانت نتيجة تغيير في قلوب الناس.
في تلك اللحظة قال لي رجلٌ من أهل البلد: "أنتِ كنتِ صادقة فيما قلته، لقد تذلّل الناس إلى الحقّ". فابتسمت وقلت: "الحمد لله، إنّما الوفاء بالعهود والإخلاص في الأعمال هما مفتاحي النعمة".
عاد معنا من الجزيرة شيءٌ أعظم من الذهب: عاد معنا طمأنينة في القلب ووعيٌ جديدٌ بأن الانسان يمكنه أن يغير مجتمعه، لم نعرض الكنوز لإظهار أو تباهٍ، بل وزّعنا جزءًا منها على الفقراء، وبنينا مسجدًا صغيرًا وعيادة مجانية وأماكن تعليمية للأطفال. كانت الفكرة أن ما فتح للبشر من أبواب الخير يجب أن يبقى مفتوحًا للجميع.
ومنذ ذلك اليوم صارت مدينتنا مثالًا في الخير والكرم، وصارت حكايتنا تُروى للأجيال كقصة تعلمهم أن الإيمان والعمل الصالح يفتحان أبواب الحياة بأشكال لم نكن نتصورها، وفي كل صباح الآن، عندما تمرّ عليّ نسمة البحر، أبتسم لأذكر تلك الرحلة: القرش المتكلم، الأبواب الخمسة، الشيخ، والخريطة القديمة. وكلما جالت في قلبي شكوك أو ضعف، أرجع إلى ذكرى تلك التجربة لأجد فيها قوة تحمّلني. هكذا تبقّى لنا الأملُ أن نعلّم الأجيال القادمة أن طريق الخير قد يكون طويلًا لكنه مجزيّ، وأنّ الكنز الحقيقي في حياة تُعاش بالإخلاص والطاعة.

تعليقات
إرسال تعليق