القائمة الرئيسية

الصفحات

 جَوى

الكاتبة|شَمم المحمد

المدققه|زينب سنوسي

المصممه|حنين هاني



٢٢/٩/٢٠٢٥

يومٌ آخرُ أحتسبُهُ في عِدادِ الموتى، فوقتٌ لستِ فيه بمثابةِ عُمرٍ ضائعٍ، لا شكَّ أنّ الأوانَ فات على استعادته.. عندما حدّقتُ في صفحةِ الماءِ الراكدةِ اليوم؛ خُيِّلَ إليّ أنني أرى انعكاسَكِ الذابل، وكم جرحتني حدَّةُ التعبِ، بعدَ دقائقَ كان عليَّ أن أُديرَ وجهي إلى الجهةِ المقابلة، فذلك الوجهُ المُنهكُ لم يكنْ يعودُ لأحدٍ سوايَ. مساءً رسمتُ لوحةً جميلةً لأنسى قباحةَ الموتِ في عينيهِ، وعندما هممتُ بالكتابة شعرتُ أنّ للكلماتِ سيقانًا طويلةً تفرُّ دونَ قدرةٍ لي على مجاراتِها، أو حتى استعادتها.. تعرفين أنّني فقدتُ رسائلَكِ منذُ مُدّةٍ، كما فقدتُ معها قدرتي على الحديثِ، والكتابةِ، والأهمُّ من ذلك قدرتي -غيرَ الآدميّةِ- على الانتظار، وكأنَّ عدّادَ الوقتِ تصلَّب فجأةً في اللحظةِ الأصعب؛ حيثُ الليلُ يتطاولُ ويكبُر، ولكنَّهُ أبدًا لا ينجلي. وهذا الحنينُ المُهلكُ لا يشفيهِ حتّى اللقاءِ.


تعرفين أنّ البَينَ يسوقني نحو الهُزالِ والتعبِ، تعرفين حالَ الأيّامِ من دونِكِ، عندما تستحيلُ صمتًا ثقيلًا، وكيف لا يتعافى الوقتُ من لَدغاتِ عقاربه؟!

لكنَّ (غسانَ كنفاني) كان حاضرًا في ذهني طوالَ الوقتِ، يُناديني: «اقتربي».

ولأسبابٍ كثيرةٍ -بعضُها لا يعلمُه إلّا اللهُ- كان كتابُ رسائلِه لغادةَ مستقرًّا بين يديَّ مجددًا، كما لو أنّني لم أقرأهُ سابقًا، كأنّنا لم نتشارك وجهاتِ النظرِ، والاقتباساتِ، والآراءَ حوله.. لكنَّه كان يحملُ بصمةً خاصّةً؛ بصمةَ الماضي، والحنينِ، وذكرياتِ شوقي المُحبَّبِ إليكِ، عندما لم يهمّني البُعدُ بعدُ. قلتُ: «ألا أشبهُ غسانَ وأنتِ غادةُ؟».

ربّما قصدتِ طريقةَ الحبِّ الغريبةَ، أو المشاعرَ المشبوبةَ، وربّما قصدتِ تشابُهَ الجنسيّاتِ فيما بيننا، وربّما شيئًا آخرَ لم أفهمْهُ حتّى الآن. ما لم تعرفيهِ قطُّ أنّني كنتُ مزيجًا رائعًا من الحُطامِ والكبرياءِ، في داخلي هناك غادةٌ متمرّدةٌ لا يكبَحُ جماحَها حتّى الحبُّ، وغسانُ آخر. 

دعكِ من ذلكَ كلِّه، هل سبقَ أن سمعتِ بكاتبٍ تقتلُهُ كلماتُه؟ هكذا يفعلُ بي كلُّ نصٍّ كتبتُهُ، وكلُّ حرفٍ أسندتُهُ لآخرَ، فأجدني أكتبُ إليكِ مجددًا ناقضةً عهدي بالتوقّفِ؛ إنّها محاولةٌ للانعتاقِ من كلِّ الأفكارِ المُعذِّبةِ، تلك التي تحدِّقُ شامتةً بين الفينةِ والأخرى وتقولُ لي متشفِّيةً: «رغمَ اكفهرارِ سمائِكِ، وتلبُّدِ غيومِها؛ لم نرَ المطرَ!».

فأتذكّر رسالةَ غادةَ اليتيمةَ (شو هالبرد؟).

هذه البرقيّةُ القصيرةُ التي أحبَّها غسانُ، ومدحها كثيرًا رغمَ شُحِّها ولا منطقيّتِها، وأعرفُ أنّني لو أتيتُكِ بمثلِها لأحببتِها أيضًا، لكنّني أريدُ أن أكتبَ قبل أن ينفدَ الكلامُ الذي أدفعُهُ دفعًا، هذا الحملُ الثقيلُ الذي يأبى مطاوعتي، وقبل أن أنتهي،

أو ننتهي -إن كنتِ مُصرّةً على مُرافقتي- ولأنّني أشتاقُكِ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى. 

لأجلِ ذلكَ كلِّه؛ سأكتبُ إليكِ.

شمم المحمد|جريده غاسق. 


تعليقات

التنقل السريع