القائمة الرئيسية

الصفحات

 مقال: "حكاية وطن"

بلد المليون شهيد



أنا امرأة حاربت لقرن وبضع عقود ضد الاحتلال؛ لنيل حريتي، أنثى بألف رجل، ومن جوفي خرج أشجع الرجال وأكثرهم عزَّةً وكرامة، أنا خضراء تضج بالحياة والأحلام، وشعبي مقاوم طموح يمشي فوق الأرض بخطى ثابتة تهز الأرض.


بلد المليون شهيد، الذين تشرَّبت دماءهم، وإن لم تُحفَر أسماؤهم جميعًا، إلا أنني أتنفس من خلالهم حريةً وكرامة، يعانقهم ترابي، ويتغنى بمجدهم وذكراهم شعبي.


تُلفظ الجزائر باللهجة المحلية "دْزَايَرْ"، ويقال إنها مُشتقّة من "دزيري"، من الكلمة البربرية "تيزيري" التي تعني "ضوء القمر"، فالواحد من سكان العاصمة يُسمّي نفسه "دْزِيرِي"، واللهجة العامية تحتفظ بكلمة "دزاير"، التي يعنون بها الجزائر البلد أو الجزائر العاصمة.


وُجِدتُ قبل خمسمائة ألف عام، ومع بداية الفترة الألفية الأولى قبل الميلاد، انتظم سكان المنطقة في قبائل استغلت الأراضي والمراعي جماعيًا، كوَّنت تلك القبائل إماراتٍ مثَّلت المراحل الفينيقية الأولى، أما عن وجودي كبلدٍ مُستقر، فقد تأسست الجزائر كبلدٍ خضراء مستقرة في القرن الثالث قبل الميلاد بقيادة سيفاكس، ثم ماسينيسا، لكن سقوط قرطاج عام 146 ق.م ساعد روما في توسيع نطاق حكمها، حيث ترك ماسينيسا خلفه دولةً قويةً لا تُهزم بسهولة، ومع ذلك رفض ملك الدولة النوميدية الخضوع للاحتلال، وأبدى الملك يوغرطة (يوجورثا) وجوبا الأول مقاومةً ضد الاحتلال في عام 25 ق.م. لم يهادن شعب نوميديا الاحتلال لفترة خمسة قرون، وفشلت روما في التوغل أكثر من 150 كيلومترًا من ساحل نوميديا، على الرغم من قوتها في الفترة البيزنطية، وتمكنوا من طردها حتى أنها انحنت أمام الفتح الإسلامي.


أما في العصر الأموي والعباسي، فقد وقعت الجزائر تحت حكم دويلات منفصلة تحت لواء المغرب العربي، وذلك ما بين منتصف القرن الثاني ومطلع القرن العاشر الهجري (القرن التاسع إلى مطلع القرن السادس عشر الميلادي).


أعلنت الدول الأوروبية الحصار على الجزائر، وقامت بدفع فرنسا في الخفاء لتدين الملك "الدائم حسين" بمبلغ 24 مليون فرنك فرنسي، وبعد مدة قصيرة، وفي عيد الفطر تحديدًا، أرسلت القنصل بيار دوفال لاسترداد الديون، إلّا أنه رد بشكل غير لائق بالتلويح بمروحته وطُرد.


كانت حادثة المروحة ذريعة فرنسا لاحتلال الجزائر، حيث رأت في هذا الموقف "إهانة" لاعتبارها، ففرضت حصارًا على الجزائر سنة 1828 لمدة 6 أشهر، ومن ثم احتلالها ودخول سواحلها سنة 1830، واستمر الاحتلال لمدة 132 سنة.


إلا أن بعض الباحثين نفوا صحة حادثة المروحة، إذ سبق لداي الجزائر أن طرد قنصل فرنسا في ملكية لويس الخامس عشر. بل أكثر من ذلك، كاد مبعوث هنري الرابع الخاص أن يُقتل في الجزائر، لكن فرنسا لم تُحرِّك ساكنًا آنذاك.


حارب الشعب الجزائري ضد الاحتلال، وكان للنساء دور بارز ومهم في هذا المجال، منهن البطلة لالا فاطمة التي وُلدت في قرية ورجة سنة 1246 هجري/ 1830 ميلادي لوالدها سيدي محمد بن عيسى، مقدم زاوية الشيخ سيدي أحمد. عُرِف بمكانته ورفعته بين قومه، وكانت لالا فاطمة تتمتع برجاحة العقل والحكمة، مما دفع العامة والخاصة للاستفادة من نصائحها.


آثرت لالا فاطمة حياة التنسك والعبادة والانقطاع، وتميزت عن بنات جيلها بالجمال والرقة، إلى جانب الوفرة في العلم والأدب. بعد وفاة والدها، تولَّت أمور الزاوية الرحمانية في المنطقة، وذاع صيتها بين القبائل وأبدت مقاومتها ضد الاحتلال، ويُذكر أنها تسببت في قتل عشرة جنرالات.


حملت أرض الجزائر علماء كثيرين، أبرزهم: مالك بن نبي، مبارك الميلي، محفوظ نحناح، محمد الخضر حسين، محمد الشريف قاهر، محمد الصديق حمادوش، محمد الطاهر آيت علجت، ومحمد الطاهر بن دومة.


شهد الكثير من العلماء المسلمين الأحداث السياسية التي مرت بها الجزائر في فترة مقاومتها للاحتلال الفرنسي، ومنهم الأمير عبد القادر، الذي وقف ضد الاحتلال وأبدى مقاومته بكل ما أوتي من قوة. ولا يمكننا أن نغفل عن أن مقاومة أهل الجزائر لفرنسا لم تكن بسبب اختلاف الآراء والأديان فحسب، بل لأنهم دخلوا بلادهم مُعتدين، حاملين طبول الحرب والطغيان.


تحررت الجزائر من الاحتلال بعد أكثر من عقد كامل، بعد أن تشرَّبت أرضها دماء شعب بأكمله، حتى سُمِّيت ببلد المليون شهيد.


- مروة القباني

تعليقات

التنقل السريع