القائمة الرئيسية

الصفحات

 "قطار الذكريات" 

 


سامية مصطفى. 


رُغـمَ الضوضاء وصوت الضجيج، وزِحام الركاب، ومُناداة الباعة الجائلين حتى هزات القطار، التي كانت كزلزالٍ بمقدار تسعة ريختر لم تشد انتباهه وتقطع شروده، فلقد كان غارق التفكير فيما حدث في الماضي القاسي مُحدثًا نفسه: منذ خمسة أعوامٍ بدأت تُطاردني الكوابيس مثلما يطلقون عليها "عائلتي"


لكنها لم تكن مجرد كوابيس، كنت أرى أشخاصًا يفعلونَ أشياء لا أعيها جدًا.. لم أستبين ما صنعوه، لكنني شعرت بالسوء من الصُنع.


بدأت بـليلة كاحلة، ماطرّة عندما استيقظتُ بغتةً من نومي فزعًا لاهث الأنفاس، كأنني أركض في أرضٍ ضاحلة لا أرى معالم الحياةِ منها، مجرد ظلام.


عندما أخبرت أُسرتي بما أراه لم يُصدقني أحد، بل نعتوني بالواهم، أتوهم أنّ كوابيسي حقيقة تحدث، لكنها مجرد أحلام مُزعجة تؤلمني، تؤرقني، تستنفذ من طاقتي الكثير. 


اِنتهى بيّ المطاف إلى الاِنعزال، الاِنغلاق، الاِنطواء بغرفتي على فراشي، اِجتنبت جميع مَـن في البيت، تجنبت الحديث عن كوابيسي تمامًا، أنكرتها لم تعد تُراودني أمام عائلتي، لكنها أمامي تزورنّي كل ليلةٍ كفتاة تهرول على أحضانِ أُمِها للأمان، وفي النهاية سئمت من تكرارِها، قلبي تفتفت، اِعتصرته الآلام، أصبحت خائف، أخاف من نفسي، من نومي، ومن غُرفتي، حتى داهمتني فكرة الاِنتقال من المنزل بلا عودة، وجدتُ مسكنًا آخر يأويني أنا وهواجسي، لكنها اِختفت ما إنّ اِنتقلت لمسكني الجديد، لم أفهم لماذا الآن؟ لماذا بيتي دفعني لأراهم؟ أعائلتي الفاعلة؟

خاصةً وأنهم لم يسألونني ثانية عن الأحلام، حتى من بابِ الواجب.


داهمني النوم بغتة بعد أنّ نسيت مذاقه من بداية اللعنة، هرولت للاِفتراش على السرير دون الاِلتفات لأي شيء، فأنا حقًا مُتعب، مُنهك الفِكر والبدن، غِصتُ في سُباتٍ عميق كنت قد اِشتقت له.


هذه المرة زارني أحدهم في نومي العميق، لكنه لم يفتعل الأشياء كعادته في كوابيسي، اِقترب ناظرًا لبؤبؤ عيناي مُباشرةً، مفرغًا ثغره عن بسمةٍ كشفت عن أنيابه، لكنها لم تُخيفني هذه المرة.


اِستيقظت بدون فزع، اِقتبستُ قِسطًا كبيرًا من الراحة، اِستنشقتُ الهواء لأولِ مرة من أعوام، أحضرت قهوتي وجلست أختلس نسمات الصباح الرقيقة، وفجأةً همس في أُذني بفحيحٍ أفزعني "لقد نِلنا منك، فلا تعود فلن يكن لكِ مِنّا سوى السوء، دومًا السوء" حينها ابتسمت براحةٍ ناتجة عن فهمي في النهاية.


تنهيدةً كبيرة أفاقته من شروده وأرخى رأسه إلى الوراء باسمًا، لا يُنكر أنه حزن لبعض الوقت على فعل أسرته الشنيع، لماذا هو تحديدًا؟

لكنه أزاح عن كاهلهِ ذاك الثقل بقرار المواجهة، استيقظ باكرًا للالتحاق بالقطار" لكم يعشق رحلة القطار، يشعر وكأنها أنامل تُمسد جسده بالهواء والراحة" مُتخذًا قرارًا لا رجعة فيه، وهو أنّ يواجه العائلة بالحقيقة التي اكتشفها، الحقيقة التي قصمت ظهر البعير، ذبحته بنصلٍ بارد.

سامية مصطفى

جريدة غاسق 

تعليقات

التنقل السريع